اللغات الأدبية في القارة السمراء




تكشف ا عما يزيد عن 300 لغة تحدُّثٍ خلال القرن 19 ميلادي من بينها 50 لغة كتابة في آداب القصة والرواية والشعر والدراما. ومع بداية القرن العشرين تزداد البحوث الاستكشافية على يد العلماء «الألماني هايتريش بارت، الانجليزي جيمس تيودور بنت، الفرنسي هنري برووي وغيرهم».
إلا ان الألماني ليو فروبنيوس(1) leo frobeniusكان أصدق المستكشفين لحقيقة القارة الأفريقية حين ذكر في كتابه «ثقافات أفريقية» ان افريقيا لتتمتع بأشكال ثقافية عديدة، لكن الظلام يخيم عليها، ولا ينتبه اليها إلا القليلون. ومع ذلك فإننا نلاحظ الى جانب ثقافتها ثقافات أوروبية مسكينة وفقيرة تظهر وكأنها عملاقة أو رائدة».
* جذور الثقافة الأفريقية:
حملت القارة منذ مهدها ثقافات عريضة ومختلفة، سبقت بعض ثقافات أوروبية تظهر اليوم رائعة ومُعلمة. ويُعزو العلماء والمستكشفون تأخر مسيرة الثقافات الأفريقية التي ازدهرت وأثرت كثيرا في الماضي الى هذا الحصار الثقافي الأوروبي الذي بذل جهدا لتعطيل انتشار الثقافة الأفريقية وحصر اشعاعاتها، وقلب تياراتها النابعة من باطن الأرض في توجه الى شعوبها، في محاولة لفرض الثقافة الغربية مهما كان حجمها، وغرابتها على المواطن الأفريقي، لكن غالبية العلماء والباحثين يجتمعون على نقاء الثقافة الأفريقية، وصدقها، وانتمائها الى الأرض. الأمر الذي يكشف الثقافات الأجنبية الوافدة والغربية، التي تتوجه لعقل الانسان الأفريقي لأوربته وإلباسه رداء ومعطف الثقافة الأوروبية.
على طريق تاريخ ثقافة أفريقيا تظهر لنا ابداعات ثقافية وفنية تتجلى في صناعات وفنون كثيرة. من العلمية ان نقول بأن هذه الفنون لم تستعمل في انتاجها أحدث وسائل العلوم والتقنية، ولا تتعامل مع الليزر، لكنها تظل فنونا تستهدف العقل والعواطف والاحساس والوجدان. هناك النحت على الحجر وعلى الخشب، صناعة الفخار والأواني والحلي، والصناعات الخشبية، والمسلات الحجرية التي تفوق المترين ارتفاعا، ونماذج من تماثيل حجرية وخشبية تمثل حيوانات وتماسيح، وأخرى من الأقنعة تصنع من البرنز، وتساهم المواد الخام في تصنيع الآلات الموسيقية الوترية الخشبية.
* النظرة الأوروبية الخاطئة:
وهي نظرة قاصرة من البداية، ولا تزال النظرة الاستعمارية رغم التحرر والاستقلال المزعومين خطرا على القارة وثقافتها. فليست أفريقيا هي الصورة التي في أذهانهم.. صحراء شمالا وجنوبا، وغابات في الوسط، ووجوه سوداء في المناطق الوسطى، بُنيّة اللون في مناطق الشمال من آثار الشمس. نظرة قاصرة لأن ثقافة قديمة كانت هناك في مصر الأفريقية، وقد يكون الجوار الجغرافي في غرب آسيا من آثار هذه الثقافة. كما ان ثقافة بابل وسومر أقدم من ثقافة مصر. وكما جاء الفينيقيون من غرب آسيا ليستقروا في قرطاج، جاء العرب أيضا من غرب آسيا، وجاء الاسلام مبشرا على أيدي المسلمين، وكانت حصيلة هذه وتلك نهضة في مصر أفريقيا، وميلاد حكومات، وبعث الحياة حول حوض البحر الأبيض المتوسط، بل ان من المؤرخين من يعزو تقدم المدن الكبرى في السودان آنذاك الى ظهور الاسلام وحده. وإذن فلا يجب ان تقاس الثقافات الأفريقية بأنها السهَبْ steppe السهل الواسع الخالي، من الأشجار أو الصحراء النوبية أو الليبية أو الأرض الميتة على حد التعبير الأوروبي. ان أهم ما قدمه المؤرخون دحض الفكرة القديمة المستقرة خطأ في الأذهان عن القارة والقضاء على ما كان شائعا من ان الثقافة الأوروبية هي منتهى الثقافات وأعرقها «حسبما يذكر فروبنيوس» حيث يقول:«إننا نعثر في أفريقيا على ثقافات متعددة لا نعثر عليها اليوم في قارة آسيا مهد الثقافات، لأنها ثقافات ماتت هناك منذ آلاف السنين، كما ان الفنون التي اندحرت واختفت في أوروبا في عصر الجليد، نراها تمارس اليوم عند البشمانيين(2) busmans في جنوب أفريقيا». والمحلل لعبارات الرحالة الألماني يضع يده على مظاهر الفتشية fetishism أو البُدية وهما الايمان بالافتاش والبدور كتقليد أعمى ويقدر صلابة العربي وخشونة الأفريقي بعد مظاهر العبودية التي لحقت بهما على أيدي البيض والأوروبيين. وتبقى حكايات بل خرافات بطلها أفريقي يأكل لحم البشر مرة، ولحوم الحيوانات مرات أخرى.
* نماذج من ثقافات أفريقيا:
من زاوية سسيولوجيا الثقافة سنعرض أهم ثلاثة نماذج ثقافية:
1 ثقافة سرت؛ يسجل الرحالة الفرنسي أوجست شيقلييه ان منطقة غرب السودان قد تعرضت لاستقبال ثقافة سرتية قادمة من الشمال الأفريقي في شكل تيار حضاري ومتجهة الى قلب أفريقيا ووسطها. يتمثل هذا التيار في بعث صناعات ثقافية مثل غزل القطن، أنواع الصباغة اللونية الأزرق والنيلي، زراعة الأرز، صناعة طين البناء، صناعة الأقمشة، وتصميمات تخطيط المدن، ونوع خاص لرموز الحساب والرياضيات، اضافة الى قوانين للنحو في اللغة.
كما تكشف الثقافة ذاتها عن تاريخ منطقة فزان التي اشتهرت بالفرسان والفروسية، وضمن انتقال الثقافة الى السودان تعلم السودانيون الفروسية من ثقافة سرت، وظهرت ملاحم بطولات فروسية «ملاحم دوسي، بوئي، نيول، بودي»dausi, bui, niaule, baudi.
أخرجت الملاحم انسانا جديدا يعتنق البطولات ويقذف بنفسه في الملمات.
يعيد المضمون الأدبي والتاريخي هذه الملاحم الى الهاميتايين hamita وهم جزء من الشعب الأفريقي من سكان حوض البحر الأبيض المتوسط وخط الاستواء وما بينهما «الهاميتا أيضا أحد أسر لغات أفريقيا»، وقصيدة «جاسير لانتيا» تعبر عن العمق الأدبي وتصور الانسان بالاحساس المعبر والوجدان الخارق عن الطبيعة في شعرية رائعة وهي نموذج للشعر الأفريقي بحق.
2 ثقافة إريتريا الوسطى:
أثبت العلماء وجود علاقة روحية وثيقة بين دول جنوب آسيا ووسط أفريقيا. وتتجلى هذه العلاقة في أفريقيا الوسطى وقرب خط الاستواء والأماكن المحيطة في معان روحية ورموز ثقافية غير ظاهرة لكنها تتمتع بالباطنية mystical، وكما تبدو في رسومات وألوان قبو «الإخوة الثلاثة» trois freres. ظلت هذه العلاقة الروحية باقية على مر الزمان بين قارتي آسيا وأفريقيا في شكل نوعيات ثقافية معينة عرفت باسم ثقافة إريتريا القديمة. منها استعمال الطبول المنشقة في الاتصالات وايصال الرسائل، القوس واستعمالاته مؤخرا بعد استحداث لغة الوتر الخيزراني bamboo string، والآلة الموسيقية الأوكارينا ocarina، وتصميم المباني على شكل سرج الفرس، والوشم الدائري، ثم قصص الحيوانات.. بطلها قزم ذو قرنين مرة، وظبي أو بقر الوحش القصيرة مرة أخرى، الى جانب بعض أنواع خاصة من النباتات، لكنه من المرجح ان صناعة الحديد قد انتقلت من جنوب شرق آسيا الى أفريقيا. لقد انتقلت ثقافة إريتريا الوسطى الى البلاد الأفريقية القريبة من خط الاستواء، وفي القصة حل الأرنب محل الظبي وبقر الوحش، وظهرت في المعمار الأكواخ المسقفة المخروطية، أثرت ثقافة اريتريا تأثيرا جادا في تاريخ الفن الأفريقي، قافزة به قفزات واسعة، ومحولة إنسانه الى الانتاج الراقي والحصاد النافع لقارته.
3 ثقافة الأطلنطي:
وهي ثقافة ثبت من البحث العلمي أنها من الثقافات القديمة في أفريقيا، وتعود الى عشرة قرون كاملة قبل الميلاد، كما ثبت اتصالها بالكثير من ثقافات غرب آسيا.
إن الرحلة التي قام بها بحرا الملك دافيد على مركبة، ثم الرحلة الثانية التي قطعها وفي نفس الفترة الرحالة هيرام تيرزوسى بحرا ولمدة ثلاث سنوات تؤكدان وصولهما الى المدينة في جنوب أسبانيا بحثاً عن الفضة، ثم وصولهما الى الشاطىء الذهبي «وهو المكان الواقع بين ساحل العاج وبين التوجو في غرب أفريقيا وكان حتى عام 1956م تحت الاحتلال البريطاني وحاليا يحمل اسم دولة غانا الأفريقية».
* مستخلصات:
1 على ضوء الواقع الحي، واستنادا الى رحلات الاستكشاف لقارة أفريقيا يتضح الدور الأوروبي الاستعماري، جنبا الى جنب محاولات تشويه القارة والانسان الأفريقي.
2 يتأكد هذا العسف بالقارة باحتلال الفرنسيين غرب السودان لعشر سنوات ما بين 1883، 1893، بينما احتل الانجليز بنين من عام 1897م، الى دول أفريقية أخرى صال الاستعمار فيها وجال حتى تحررت في منتصف القرن العشرين.
3 تشير كل المراجع التاريخية الى ان الاحتلال لأفريقيا بمختلف صنوفه كان يحمل سمة الغزو الثقافي لأفريقيا في المقام الأول.
4 يتضح قصور الفهم عند البيض. إذ لو فهم الأوروبيون وغزاة الثقافة ومدمروها.. ان الثقافة تكوين ونظام وكائن حي عضوى داخل نفس الانسان الأفريقي، لما تجرأوا على محاولة انتزاع ثقافة الرجل الأفريقي، فالثقافة تولد مع الانسان، يعيشها طفلا وصبيا وشابا وعجوزا وكهلا. وهي مستمرة معه في أحاسيسه يوما بعد يوم حتى لتسري مسرى الدم في العروق.
فالواقع ان الثقافة تعيش في داخل الانسان.. أي انسان في أية قارة، وليس الانسان هو الذي يقدم الثقافة الى الوجود الانساني.
على هذا نرى الثقافة الحقيقية هي التي ترتبط ومنذ الأمد البعيد في حياة الانسان بنشأته، وبيئته، ونفسيته، وبنيته من زاوية علم التشكل morophology .
هوامش:
1 ليو فروبنيوس (1873 1938) رحالة ألماني من أصل بروسي. درس آداب أفريقيا ولهجاتها. أهم كتبه ثقافات أفريقية، في الطريق الى الأطلنطي، وتحدثت أفريقيا، الفن الأفريقي. صاحب تعبير «الدائرة الثقافية» culture circls الذي امتد كتيار بحثي علمي في كل من الفكر الأفريقي، المادة الأفريقية.
2 البشمانيون، نوع من البشر الأفريقي قصيري القامة.

هناك تعليق واحد:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.