دراسة حول الأنظمة السياسية في افريقيا قبل الأستعمار



دراسة كتبها لليسار اليوم : كريبسو ديالو*

تجربة النظم الافريقية القديمة في الحكم والسياسة من أقدم الموروثات السياسية فى العالم، وذلك لما يملكه هذا الإرث من قواعد فلسفية شكلت إرثا عرفيا فى الحكم والسياسة تقود وتوجه المركب المفاهيمى لتجربة الحكم والسياسة فى أرجاء القارة فى غياب الحدود السياسية، وفى ظل وجود المقومات اللغوية والأنماط المؤسساتية البسيطة التى عاشتها المجتمعات الإفريقية القديمة، فعلىسبيل المثال شعب “البانتو” كان يتنقل عبر جبال إفريقيا الوسطى إلى شعب “الهامتيك” مهاجرا ومتنقلا إلى شرق القارة، يكون مجتمعات جديدة ويؤسس أنماطه السياسية ومؤسساته التى يحتاج إليها وفق ما تقتضيه الحاجة والمكان والزمان.
كانت القبائل الإفريقية تختار الفضاء الذى يحقق لها الاستقرار والعيش فى عدل ومساواة وحرية ومن ثم تختار أشكالها السياسية وتؤسس قوانين وأعراف مجتمعاتها، وبهذه الآليات البسيطة كانت المجتماعات الافريقية القديمة تؤسس لمفاهيم الديمقراطية المباشرة لإدارة شئونها، وبدون الإعلان عنها، فكانت هناك مؤسسة الجيرونتوقراطية الإفريقية العريقة وهى أول مؤسسة لممارسة الحكم والسلطة فى التاريخ السياسى، ألا وهى حكم الشيوخ أو حكم الكبار ذوى الحكمة والخبرة والحنكة.
ولقد كانت تلك النماذج السياسية الإفريقية تعبر عن المضمون الفلسفى السياسى وكانت من ضمن مؤشرات للقيم الاجتماعية السائدة آنذاك التى أسست فعليا أنظمتها السياسية وشكلت بذلك القيم السياسية للقبائل الإفريقية، وإن المركب المفاهيمى والمعرفى لتجربة الحكم والسياسة فى إفريقيا يرشدنا أيضا إلى أن الشعوب الإفريقية القديمة طورت ذاتيا في التنوع البنائى والمؤسساتى لتجربة الحكم والسياسة فى إفريقيا، استنادا على فرضية أن الأفارقة قديما صنعوا وابتكروا طبيعة الجماعية الإنسانية وطبيعة التفاعل الاجتماعى وتأسيس العلاقة المطلوبة بين القوة والسلطة، من خلال تقاسم أهداف مشتركة وأساليب سياسية.
فالتنوع الذى شهدته تجربة الحكم والسياسة فى إفريقيا يقدم لنا نموذجا لكيفية صياغة الفكر السياسى فى ظل التنوع البيئى والجغرافى والثقافى والبشرى فى تقارب زمانى ومكانى، لذلك وفى إطار البحث عن الأنماط والنماذج للحكم والسياسة فى إفريقيا تخبرنا التجربة الجيرونتوقراطية الإفريقية بأن موضوعات الفكر السياسى الإفريقى القديم ترسخت فى نماذج وأشكال من خلال الشعب يختار ما يناسبه لترشيد وجهته، ومن حيث المدى والنطاق والتاريخ للفكر السياسى الإفريقى المهمش وأول هذه الموضوعات هى قضية الجماعية أو التعددية بمفهومها العصرى فى الفلسفة السياسية الإفريقية ويستمر التحليل إلى فحص فكرة المركزية وانتشار القوة السياسية ومحدودية استعمالاتها وضوابطها وأهمية علاقات التفاعل بين الدين والفلسفة السياسية من خلال النزعة الثقافية الإفريقية نحو العلاقات التبادلية والارتباطية بين العمر والحكمة والمعرفة، وإن مفهوم التعددية والجماعية يرتبط فى هذا السياق بذلك التنوع البنائى المؤسساتى لأنظمة الحكم والسياسة فى إفريقيا، وكذلك تنوع شعوبها.
تفيد أدبيات الأنثروبولوجيا السياسية أنه يوجد فى إفريقيا مجتمعات يعتمد نظامها السياسى على رابطة العائلة والدم، وهناك التوريث فى السلطة من جيل إلى آخر، إلا أن هناك أشكالا أخرى من السلطة تكتسب اكتسابا، ونماذج أخرى تتقاسم فيها جماعات السلطة داخل تلك المجتمعات، أو سيطرة طبقة أو عرق محدد بعينه، والبعض الآخر من الأشكال السياسية المؤسساتية يعتمد على السلطة الدينية، أى بمعنى وجود العلاقة بين السلطة والمقدس فالتنوع الذى تتمتع به الأشكال السياسية الإفريقية قديما خاصية من خصائص التعددية من حيث الكم والكيف وتفوق تعدديتها فكرة التعددية المعاصرة شكلا ومضمونا، فمصطلح التعددية واستعمالاته المعاصرة هو منتج إفريقى قبل أن يكون منتجا غربيا.
ولقد فشلت أنظمة حركة الاستعمار فى الاعتراف بأهمية التنظيمات والأشكال التقليدية لعمليات بناء حكومات عصرية ولذلك خسرت الحركة الاستعمارية وجودها فى إفريقيا وفشلت فى تحويلها إلى كيانات تابعة لها وخسرت معها العديد من الحكومات الإفريقية استمراريتها، ولقد استفاد علم السياسة عند دراسته للنظم السياسية الافريقية من نتائج ودراسات علم الانثروبولوجيا الذى قدر أن هناك مئات الآلاف من المجتمعات المختلفة فى مختلف أرجاء القارة بداء من أنظمة الإدارة وإنتاج الغذاء وأنظمة جماعية عرقية قاعدتها العلاقة العائلية والعشائرية، فكانت هناك تنظيمات اجتماعية سياسية ذات أشكال وأنماط كثيرة ومتعددة.
ومن الأوائل الذين اكتشفوا معالم المركب المفاهيمى التاريخى لتجربة الحكم والسياسة فى إفريقيا فورتز، و إفانز برتشارد من خلال تحقيقاتهم الأنثروبولوجية للمجتمع الإفريقى، فالأنظمة السياسية الإفريقية التى تعرفوا عليها كانت متطورة حيث كانت تمثل المركز السياسى فى إدارة شئون الأفراد ووضع ضوابط ومعايير للقوة متفق عليها جماعيا من خلال العلاقة بين النسب والقربى والسلطة السياسية، فذهب هؤلاء إلى استنباط ثلاثة أشكال للأنظمة السياسية الإفريقية قاعدتها الجماعة والعمل الجماعى وعلاقات النسب إلا أنها نمطية بدائية :
1 – جماعات فرق الصيد.
2 – مجتمعات النسب والقربى المنفصلة :
ففرق الصيد كانت متمثلة فى قبائل “الكونغ” و”البيرقاداما” و”الموبوتى” حيث كان يعتمد المركز السياسى للأفراد على طبيعة النسب والقربى والشكل الثانى كان متمثلا فى قبائل “الموسى” في كينيا  و”الايبو” فى نيجيريا الجنوبية وقبائل “النيور” وقبائل “تالاينزى” وقبائل “الزولو” وقبائل “الهيمبا” وقبائل “الأشانتى” وقبائل “الباجاندا”، فكل من العمل السياسى والإدارى مرتبطان فى حكم المجتمعات الإفريقية القديمة.
فالأول يقع على مستوى القرار والبرامج اليومية والحاجات الأساسية والثانى يقع على مستوى التنظيم والتنفيذ حيث الارتباط الواضح بين السلطة والعمل السياسى من خلال العمل الإدارى المحكم المتسلسل لإدارة الشئون العامة وعلى مستويات مختلفة وحسب قواعد دقيقة، فالأشكال الأولى والثانية تتميز بوضوح مؤسساتها السياسية لاتخاذ القرار وتركز السلطة مركزيا أما الشكل الثالث فيعتمد على انتشار السلطة السياسية من خلال الحكم المنتشر للأفراد وبعدالة مختلطة ومتنوعة.
وعليه فإن الأنظمة السياسية الإفريقية القديمة لا تتميز عن بعضها كثيرا إلا بمقدار ما تختلف فى درجة المفاضلة بين الأنساق التى تتبعها بالرغم من أنها أنظمة متقطعة ومجزأة، ولكنها تلتقى جميعا فى التوافق السياسى والإدارى وهذه خاصية تسجل للنظم الإفريقية وتستحق المزيد من الرصد والتحليل، وهذه الأشكال من التنظيمات السياسية لاتخاذ القرار وممارسة السلطة فى إفريقيا إنما تعتمد بشكل واسع على قاعدة جماعات القربى والنسب كوحدة منفردة تدير شئونها بشكل حر وديمقراطى بعيدا عن السيطرة الخارجية، وباستقلالية كاملة إنه نظام تعددى وتنوعى وجماعى من حيث طبيعة السلطة السياسية ومنظومة الحقوق والواجبات والالتزامات الفردية والجماعية للسلطة وكيفية حصول القادة فى تلك الأنظمة على الدور لقيادة المجتمع.
وهناك مظاهر مزدوجة للسلطة وممارستها إفريقيا، بمعنى أن هناك علاقات سلطة داخلية وعلاقات سلطة خارجية فنجد أن هناك معارضة مقيدة وتحكيما بين أنساب يربط بينها نسق النسب والمصاهرة والقربى وكذلك معارضة وعداوات منظمة وحذر دائم وحروب من أجل النفوذ والغنائم ومخازن الغلال، وكل ذلك يتم فى إطار وجود زعامة تقليدية جنبا إلى جنب وجود طبقة كبار الوجهاء “كويبو” والذين يقومون بدور القادة العسكريين والمحاربين، فالسلطة فى هذه الأشكال يتم تأهيلها من خلال ترابط العوامل الداخلية والخارجية وتنظيم الشئون العامة.
ولقد كانت هناك عناية فائقة بالمساواة وبعض مظاهر التمييز حسب فئات الجنس والعمر والموقع النسبى والاختصاص والسمات الشخصية بالرغم من ذلك فهناك نزعة لإضفاء صفة القداسة على السلطة السياسية فى معظم المجتمعات الإفريقية، فالعلاقة بالمقدس تفرض وجودها، فهى دائما حاضرة ومن خلال المقدس يتعلم الأفراد أن هناك مجتمعا سياسيا يقدم لهم التنظيم السياسى كنظام لممارسة الحقوق والواجبات واستقرار للأعراف والقوانين.
وقد برز على المسرح السياسى المؤسساتى الإفريقى شكل آخر من الأنظمة السياسية الحربية والتى فيها يقسم المجتمع إلى فئات عمرية من شبان ومحاربين وكبار السن، حيث يذهب الذكور من نفس الفئة العمرية بعد انفصالهم عن مجتمعاتهم للتدرب لمدة أربع سنوات على شئون الحرب والإنتاج بعدها يعودون إلى فئاتهم الاجتماعية، إلا أن الأسلوب الجيرونتوقراطى لصنع القرارات السياسية والإدارية هو السائد فى هذه الأنظمة، والإنجاز معيار سياسى وقيادى لكل الأفرادخصوصا فى شئون إدارة الحرب والسلم.
إلا أن بعض المدارس المهتمة بالأنثروبولوجيا الإفريقية ذهبت إلى التقليل من الأهمية المفاهيمية لأنظمة الحكم والسياسة فى إفريقيا واستندت فى أبحاثها ودراساتها إلى أن الوجود فى إفريقيا ليس بذلك المركب المفاهيمى للسياسة والحكم وإدارة شئون السلطة والدولة من خلال أنظمة الجماعية الافريقية وأساليبها فى الديمقراطية الاجتماعية المباشرة وفضلت التصنيف الثقافى لهذا المركب المفاهيمى خصوصا المعيار اللغوى والثقافى لوصف تلك الأشكال السياسية:
1 ـ ثقافة الكواجيان
2 ـ الثقافة الرعوية فى شرق إفريقيا
3 ـ ثقافة قبائل أوغندا وجنوب السودان
4 ـ ثقافة النوبة والبجا
5 ـ ثقافة ولغات الكونغو
6 ـ ثقافة ولغات سواحل غينيا
بدون تحليل المكونات القاعدية لأنظمتها السياسية وفى تجاهل تام لأهميتها فى حقل الفكر السياسى الإنسانى، وهناك مدرسة أخرى تجاهلت أيضا طبيعة التعددية والتنوع لأشكال الحكم والسياسة فى إفريقيا واقتصرت تحليلاتها على معاينة نماذج وسائل جمع الغذاء والبناء الاجتماعى العشائرى من خلال منحها صفة الحضارات:
1 ـ حضارة البو، وهى عبارة عن جماعات صغيرة كفرق الصيد المنتشرة بين عشائر المبوتو والكونغ والناريم.
2 ـ حضارة المقايضة، وتشمل جماعات الكيسى والمونغو وعشائر الهمبا.
3 ـ حضارة الحنطة والغلال، وتمثلت فى قبائل الكوبا واللوبا والكونغو والبمبا واللوزى.
4 ـ حضارة الرماح، وشملت عشائر الزولو وانكولا والماساي والنيور وقبائل الكيوكيو .
5 ـ حضارة المدن، وهى متمثلة فى حضارة مدن الياروبا والاشانتى.
مما سبق يتضح أن المعالجات العلمية الغربية خصوصا بين رواد الفكر السياسى والأنثروبولوجى لم تتقدم إلى مساءلة فكرة التنوع والتعدد فى الفكر السياسى الإفريقى، ولم تتعرض للأشكال السياسية لممارسة السلطة والسياسة بل اهتمت فقط بتحديد المجتمعات الإفريقية المجزأة وسلوكها الإنتاجى والغذائى من خلال دراستهم للبيئة إن الموروث السياسى الإفريقى لأشكال الحكم والسياسة يخبرنا بأن هناك العديد من الأنظمة المتفرعة والمجزأة والمكونة لأنظمة وأشكال جديدة لا ترتبط بالمعيار الثقافى أو اللغوى أو نوعية الحضارة فهناك أشكال مركزية وأشكال ونظم وحكم فرق الصيد وفرق الزراعة أو الرعوية وهذا بدوره يعزز الاعتقاد بأن التراث الإفريقى كان مزرعة وحاضنة فكرية لأفكار التعددية والتنوع فى أشكال السياسة والحكم إضافة إلى التعددية والتنوع الثقافى والتاريخى واللغوى
المركزية وانتشار القوة السياسية
بعد أن القينا نظرة على أنواع وأشكال السلطة والحكم والسياسة فى الموروث الإفريقى العريق يجور للقارئ أن يتساءل: ما هى القواسم المشتركة لهذه الأشكال السياسية؟ وكيف تختلف عن بعضها؟ وما هى مكونات الاختيار إذا كان هناك تشابه لهذه الأشكال فى الإدارة والحكم؟
إنها آلية الابتكار السياسى الإفريقى عندما كان المجتمع الإفريقى البسيط يقبل بأشكال سياسية معينة ثم يختار ما ينسابه منها ويبقى على الأخرى ثم يطور أشكالا جديدة كلية تلبى احتياجاته فى ممارسة السلطة والحكم وكأنه بذلك يتحكم فى اختيار أداة الحكم التى تعكس حاجاته ورغباته، وكما سنوضح لاحقا فإن هناك فى تجربة الحكم والسياسة الإفريقية نوعين من الأشكال التنظيمية للعملية السياسية حيث الأول يعتمد على انتشار القوة السياسية ضمن دائرة المجتمع السياسى، بمعنى المشاركة فى صياغة القرار السياسى وتنفيذه، والثانى يتمحور حول تركز القوة السياسية بمعنى المركزية فى اتخاذ القرار.
ولتقريب المشهد السياسى للمركب المفاهيمى لتجربة إفريقيا نباشر بتقديم بعض تلك الأشكال
أولا ـ منظمة حكم الفرقة:
منظمة الفرقة عبارة عن جماعات صغيرة العدد تعتمد على الصيد وجمع المحاصيل كنمط سياسى سائد فى تجارب الحكم والسياسة فى إفريقيا لمدة 30000 سنة مضت تقريبا ولا تزال بقايا هذه التجارب ممثلة فى بعض القبائل الأوغندية وقبائل أنا قوتا فى نيجيريا وقبائل تاوا فى رواندا وقبائل المبوتو فى زائير وعشائر الكونغو فى صحراء كلهارى وقبائل تنديقا وباهى فى تنزانيا وكل جماعة تشكل فرقة لا تتجاوز العشرة أشخاص والعلاقات السياسية كانت تمارس فى ظل حدود موحدة وعلاقات النسب والقربى العشائرية وبالتالى فإن المجتمع السياسى والدولة وجهان لعملة واحدة والقرارات كانت تتخذ وجها لوجه من قبل كبار السن الذكور وقواعد الممارسة كانت تتوزع وفق طبقات العمر والجنس.
ثانيا ـ الأنظمة المجزأة التقليدية:
ويتميز هذا النظام عن غيره من نظم حكم الفرقة للصيد أو لجمع الغذاء والغلال من حيث الحجم والنطاق والمدى وطبيعة التفاعل لأفراده وكذلك طبيعة العلاقة ما بين السلطة السياسة وأفراد الجماعات فهناك فى هذا النظام ثقافة وطنية واحدة وفكرة الأمة بمدلولها السياسى تبدو أكثر بروزا إلا أن هذه الأمة تنقسم الى وحدات صغيرة قاعدتها الرابط العشائرى فى مناخ تنافسى لتحقيق فلسفة الإنجاز وترسيخ الأعراف من ناحية وتقديم الأفضل من الضمانات لتنظيم العلاقات بين الجماعات وتحقيق العدل فى أوقات السلم وفى زمن الاختلاف من ناحية أخرى ويلاحظ فى هذه الأشكال السياسية لممارسة السلطة قدرتها على إحداث التوازن الاجتماعى وتحقيق الاستقرار فى زمن الصراعات والخلافات ففكرة الضمان والتعويض كانت قائمة لحل الخلافات بأبعاد قد تتجاوز المجتمعات المعاصرة وكانت أشكال النظام المجزأ التقليدى سائدة فى أوساط عشائر الكورو فى ليبيريا وسيراليون وقبائل إبيو فى نيجيريا وقبائل اللوبى لفلولتا العليا وقبائل وعشائر التونجا فى تنزانيا والصومال وإثيوبيا وكينيا والعشيرة هى الوحدة الأساسية للعيش والسياسة معا وكل عشيرة لها قائد من كبار السن أو مجموعة قادة أو لجنة من مجموعة القادة الكبار فى السن ويدور كل ذلك فى غياب مفهوم السلطة السياسية للأمة والحقائب التنفيذية كان يتم توزيعها عبر الاختيار المباشر وفى الهواء الطلق وفى الأحيان القليلة كانت متورثة بحكم الأعراف يتميز هذا النظام بوجود تجانس ثقافى ولغوى ودينى ولكن فى ظل إقليم ضعيف المعالم والحدود إلا أن غياب سلطة مركزية فى هذا النظام الطبيعى تسبب فى هزيمته أمام القوة الاستعمارية فى معظم مناطق القارة إلا أن فلسفته لممارسة السلطة بعقل الجماعة لا تزال باقية فى الثقافة الإفريقية ومن خلال مرورنا على أنظمة الفرقة والمجزأة كأشكال لممارسة السلطة والعملية السياسية فى إفريقيا لاحظنا أن هناك غايتين أساسيتين تفقان وراء هذا التطبيق الديمقراطى هما: تعميق معانى اللامركزية للقوة السياسية والطبيعة المساواتية للعملية السياسية فى ظل وجود كيان أنظمة فرعية ذات شخصية اعتبارية وهذا بكل تأكيد يسجل لتراث الفكر السياسى الإفريقى الذى سبق العديد من النظريات السياسية وتطبيقاتها.
ثالثا ـ النظام المجزأ الشامل :
يمتلك النظام المجزأ الشامل هو الآخر نفس الصفات والخصائص للنظامين السابقين إلا أنه يتميز بـ عمليات التنشئة الاجتماعية المشتركة بمعنى أن قطاعات تمتلك كيانها السياسى من خلال العمليات المشتركة لممارسة السلطة وإذا كان هناك من مصطلح يطلق على هذا النظام فليس لدينا فى القاموس السياسى إلا مصطلح الشعبى أو الجماهيرى وفى هذا النظام لكل شعب إقليم ولا يحدد الشعب بالضرورة بعلاقات النسب والقربى ولكن من خلال انتشار المؤسسات حسب طبقات العمر والانتقال من قطاع إلى قطاع آخر لممارسة العملية السياسية وقد كانت التنشئة الاجتماعية المشتركة والكيان للجماعات الفرعية إحدى خصائص التجربة السياسية لقبائل وعشائر الماسا فى كينيا وتنزانيا وعشائر سنداوى وعشائر نياكوسا فى تنزانيا وعشائر ناندى وكبيسى والميرو فى كينيا، ففى هذه الأشكال المنظماتية كانت القواعد السياسية توزع على خلفية الإنجا بمعنى تحقيق الأهداف والقيم والمبادئ والولاء للجماعة ومعتقداتها فكان نتيجة لذلك وجود طبقتين طبقة كبار السن للقرية و القادة المحاربين،
ويكشف لنا هذا النظام أيضا عن فلسفة أخرى ومهمة فى تجربة الحكم والسياسة فى إفريقيا، وهى وجود قادة أو أفراد لأداء مهمة محددة وهو مبدأ التخصص، فمثلا هناك قادة فى زمن السلم يمكن الاستنئاس بهم وذلك لوجود خصائص معينة لديهم وقدرتهم على إظهار إرادة المجتمع واحترام العرف وحل النزاعات وجعل المجتمع يستمر فى أداء مهمته، ومن ناحية أخرى هناك لحظة الحرب والمواجهة وهى تحتاج الى خصائص معينة وبالتالى فإن النظام المجزأ الشامل يتيح المجال للتخصص فى ممارسة العمل السياسى وفق القدرة والإمكانيات والاستعداد والذى من خلاله يتحقق الإنجاز، ومن ضمن المؤسسات التى يتمتع بها هذا النظام وجود مكتب مراسل الحرب وشاغله يمثل أعلى المهام نظرا لوجوده بين القوة السياسية والقوة الدينية ووظيفته الأساسية تحديد الوقت المناسب للذهاب للحرب والمواجهة. ليس ذلك فقط ولكن له مهمة تحديد السياسات العامة ومضامينها وتطبيقها والوقت المناسب لها فمكتب مراسل الحرب هو بمثابة المكتب السياسى التنفيذى فى الأشكال السياسية المعاصرة إلا أنه يختلف عنه من حيث المهام والتسمية ويقال له ليبون ضمن عشائر ماساى فى كينيا وتنزانيا ويدعى أركويوت فى عشائر الناندى فى كينيا ويقال له موقووى ضمن عشائر الميرو فى كينيا أيضا والمنافسة كانت شديدة للوصول الى هذا المنصب لما له من دلالات متعلقة بطبيعة الإنجاز المحقق سلفا ويذكرنا التاريخ بأحداث قريبة فى الفترة من 1889 إلى 1890 حصلت ضمن عشائر وقبائل الماساي فى كينيا حيث الصراع والتنازع حول تقلد منصب ليبون فكانت المنافسة عالية الحدة نظرا لتقدم أكثر من ليبون لهذا المنصب وهذا يوضح أهمية فكرة درجة الإنجاز والتى تعنى فى هذه التجربة الكفاءة والقدرة والولاء.
رابعا ـ النظام المجزأ التدرجى الروحى:
يتميز هذا النظام بوجود مكاتب دينية مقدسة وتدرج اجتماعى معين أو امتلاك أشياء معينة مكرسة للعبادة ويقوم التفاعل السياسى فى هذا النظام على تحقيق نوايا دينية وطقوس ذات صفات مقدسة فالقائد الدينى أو الروحى فى هذا النظام هو رمز للوحدة القومية للأمة، وفى الوقت نفسه هو الحاكم الفعلى للأمة فى المناسبات الدينية والروحية، ولكنه لا يتمتع بسلطة سياسية وهذه مفارقة فى طبيعة الأداء للعمل السياسى والقيادى فى هذا النظام فى زائير كان يطلق عليه بالملك الإله وهو يملك خصوصية روحية مقدسة ولكنه لا يملك القوة السياسية كما تفيد تجربة الأشكال السياسية عند عشائر الأنكول فى أوغندا حيث إن المجتمع الأنكولى ينقسم الى طبقتين (الباهيما والميريو) (العامة من الأفراد والنبلاء) وتشير هذه التجارب المختلفة إلى أن الأغلبية الساحقة من المجتمعات الإفريقية التقليدية مجتمعات متساواتية ضمن مفهوم الطبقة الاجتماعية وأمثلة ذلك عشائر وقبائل سوازى والزولو فى إفريقيا الجنوبية وقبائل وعشائر الأمهرية فى إثيوبيا متخذة من التدرج الاجتماعى كفلسفة عقلية لهذا التنوع.
خامسا ـ نظام القرية الذاتى والمستقل:
وهذا هو الشكل الأخير فى النظام المجزأ لأشكال ممارسة السلطة فى إفريقيا وهو نظام القرية الذاتى والمستقل وساد فى نيجيريا ولا يزال إلى الآن بين قبائل ابيبواس وقبائل البول وباكوى فى ساحل العاج وفى شرق أفريقيا ضمن عشائر السواحلى حيث يتشكل هذا النظام على هيئة دول المدينة ففى الشريط الساحلى للمحيط الهندى للقارة الإفريقية أقيمت ولأول مرة فى تاريخ الفكر السياسى دول المدينة والتى اعتمدت على نظام المبادلات التجارية فى ظل ثقافة ولغة مشتركة ولكن فى غياب وجود سلطة مركزية سياسية إلا أنها دول مستقلة وذات حكم ذاتى لقد كانت تتبنى هذه الدول أشكالا سياسية متعددة ومنها شكل نظام الجمهورية أو حكومة جمهورية والأشكال الأخرى تتخذ من المفاوضات والمساومات كعملية سياسية لإتمام عمليات الضبط والاستقرار بين قادة التجار وما يميز هذه الأشكال وجودها ضمن نطاق إقليمى قوى ومحدد وذلك نظرا لخصوصية بيئة الحياة فى تلك المناطق والتى تعتمد على التجارة والحروب، فدول المدينة هذه كانت تتحدد فيها أيضا عمليات الأحداث وصنعها من خلال محددات سياسية واقتصادية والنماذج هى:
النموذج الأول: دولة المدينة فى ظل حكم استبدادى، ويشمل وجود قوة سياسية مركزية ضمن وحدات عشائرية.
النموذج الثانى: يعتمد على وجود وحدات سياسية تدار من خلال فكرة المجلس والمجلس يمكن اختياره مباشرة أو بالاستيلاء عليه بالقوة والقيادة السياسية فى هذا النموذج جماعية.
النموذج الثالث: ويعتمد على وجود سلطة سياسية مركزية قوية فى ظل قبول القيادة الجماعية للحياة السياسية ويختار حاكم معترف به لإدارة الدولة من داخل المجلس يكون من الأكفاء وليس من العموم.
ويلاحظ أن هذه النماذج كانت تعتمد على مبدأ انتشار السلطة السياسية بمضامين القوة والقدرة ومبادئ الاختيار المباشر فى ظل آليات التدرج الاجتماعى ودرجات الإنجاز والكفاءة، صحيح أن هناك تضحيات لهذه الأشكال التى ارتضتها المجتمعات الإفريقية ولكنها فضلت فى ظل هذه التضحيات الحصول على منافع انتشار السلطة والقوة السياسية وفى كلتا الحالتين، ابتكر المجتمع الإفريقى التقليدى أشكالا للحكم والسياسة ـ مركزية ولامركزية ـ عبرت عنها مجتمعات وممالك وإمبراطوريات غانا ومالى من القرن الحادى عشر إلى القرن السادس عشر إلى قيام ممالك باكونقو والباقندا والاشانتى.
سادسا ـ الأشكال السياسية الملكية:
وتتوزع هذه الأشكال الى ثلاثة نماذج
1 ـ الملكية الهرمية
2 ـ الملكية المفدرلة
3 ـ الملكية المركزية
والشكل الأول الهرمى المفدرل يتشكل بالمبادئ الفيدرالية فى إدارته السلطة وممارسة العمل السياسى من خلال وجود سلطة سياسية مركزية، وقائد للدولة معترف به من قبل كيانات الجماعة الفرعية، والثقل السياسى يكون دائما للجماعات الفرعية فى هذا النظام، إن عضوية الفرد فى جماعية فرعية تكسبه الانتماء للنظام، والسلطة السياسية تتمثل فى قدرة الجماعات الفرعية على جمع السلاح والغذاء وتحصيل الضرائب والديون وحل المنازعات العشائرية والمحافظة على حدود الدولة، بمعنى أن هناك قاعدة الشعب والمتمثلة فى العشائرية والعائلات، يلى ذلك وجود مجلس وحاكم وهو الملك فالآلية فى هذا الشكل لاختيار ممارسى السلطة تعتمد على اختيار أعضائه مباشرة من قاعدة العائلات والعشائر الى المجلس ويختار الحاكم أيضا مباشرة من قاعدة العشائر والعائلات وهو بالطبيعة قائد إحدى العشائر والعائلات القوية. وهذا النموذج يمكن القول إنه منتشر فى معظم أرجاء القارة، على سبيل المثال لدى عشائر الاشانتى فى غانا، والبمبا فى تنزانيا، والهوسا فى نيجيريا، والهايا والشمبالا فى تنزانيا، وعشائر البالويا فى زائير، وعشائر اللور واللنج فى أوغندا، إلا أن عشائر وقبائل الاشانتى فى غانا لها فلسفة سياسية أكثر ديمقراطية فى توطيد معالم هذا النظام، حيث إن المجلس هو الجهة الوحيدة الذى يختار الحاكم الأعلى الملك ويملك حق إقصائه فى حالة عدم وفائه بتحقيق مبادئ وأهداف المجتمع السياسى الاشانتى أو عدم قدرته على مواصلة مهامه فكل جماعة فرعية فى هذا النظام لها حاكم خاص بها ومجلس مصغر أو بتعبير عصرى حكومة مصغرة تمارس اختصاصات القضاء والزواج والمحاكم وجمع وصنع السلاح وجمع الأموال والديون والضرائب.
إنه النظام الفيدرالى على الطريقة الإفريقية البسيطة وهذه الفيدرالية الملكية خلقت مجتمعا سياسيا قويا يتطلع إلى ما وراء حدود قبائله كما يخبرنا التاريخ فى حدود سنة 1764 ـ 1824 بأن قبائل الاشانتى قد مدت سلطتها السياسية إلى كيانات قبلية أخرى غير منتمية لها وأنشأت مراكز قوة سياسية فيما وراء حدود قبائلها وعشائرها حيث مارست الجماعات الفرعية فى هذا النظام مهامها الإدارية والسلطوية على عشائر وقبائل داجمبا وعشائر الكونجا.
ويمثل الشكل الثانى النموذج المفدرل الملكى المجتمعى بمعنى اعتماده على وجود مجتمعات ذات كيانات قوية بمثابة الجمعيات التى تلتقى فى مصالح مشتركة فى ظل وجود بناء سياسى مركزى وتشكل هذه المجتمعات الصغيرة حلقة الاتصال بين العشيرة أو القرية والسلطات السياسية المركزية ووظيفتها إدارية وسياسية مثل جمع الديون وتنظيم شئون القضاء والتقاضى وهذا النموذج لا يختلف عن سابقه كثيرا إلا فى امتلاكه لظاهرة انتشار الجمعيات والمجتمعات الصغيرة بكيانها القوى وهذا تطور آخر فى كيفية توسع رقعة المشاركة فى السلطة السياسية وممارستها وكذلك تتخذ آلية تقليد المواقع وتولى الحقائب التنفيذية صورا عصرية فى ظل المنافسة بمعنى أن هذا النموذج يشمل الحاكم والمجلس والعشائر والجمعيات السياسية القاعدية التى تفرز قادة اجتماعيين وسياسيين للعشائر وللمجلس وكذلك تحديد من يجب أن يتولى الشئون القيادية العامة بمعنى أن القواعد الجماهيرية هى التى تختار مباشرة من يقودها ولقد شاع هذا النموذج تحديدا فى غرب إفريقيا خصوصا فى سيراليون وليبيريا وساحل العاج وقبل مغادرة هذا الجزء نذكر بمثال فى منتهى الأهمية وهو وجود مجتمعين مثلما كان موجودا ضمن عشائر وقبائل المندى فىالمجتمع الأول للرجال ويعرف بالبورو والمجتمع الثانى الساندى للنساء داخل الأمة الثقافية الواحدة وهذا يعطى استنتاجا عن وجود المرأة ومشاركتها فى تفعيل السلطة السياسية جنبا إلى جنب الرجل الإفريقى والشكل الثالث والأخير الملكية المركزية ومن خصائصه تمتعه بإدارة سياسية مركزية وحدود واضحة إقليمية إلا أنه لا يعتمد فى تفعيله على روابط النسب والقربى والعائلة ولكن على الارتباط المباشر بالملك أو الحاكم والحاكم له إدارته الخاصة التى تتكون من طبقة النبلاء والعامة من الأفراد فى ظل وجود مجلس الملك وتتحدد عضويته من خلال ذلك ولكن القوة لها مفهوم جماعى وتقع فى قمة الأمة كل ذلك يتم فى إطار وجود طبقات عمرية مختلفة ولاؤها للملك مباشرة وهذا الشكل كان سائدا فى معظم الأنظمة السياسية الإفريقية التقليدية حيث وجد ضمن عشائر فيبا فى تنزانيا وعشائر الزولو ونقونى وسوازى فى جنوب إفريقيا تحديدا أما عشائر الماساي فكانت تأخذ بهذه الأشكال السياسية فى ساحل العاج وكذلك عشائر غانا ومالى.
وبرغم أن هناك أنظمة إفريقية من خلال الأشكال التى تطرقنا لها تتسم بنوع من السلطوية والقهرية وتغييب الآخر إلا أنها قليلة ولكن تظل التجربة العامة للحكم والسياسة فى إفريقيا محملة بالكثير من آليات التوازن التى تؤثر على سير ممارسة السلطة وتؤكد عدم إساءة استعمالها أو التفريط فيها من قبل الحكام والقادة إن الأفارقة بخصوصيتهم الثقافية والمعرفية التجرباوية يؤمنون بأن فكرة المجتمع هى مجتمع الجماعة من خلال قيادة جماعية والقائد هو الرمز باتجاه تحقيق الصالح العام والمنفعة العامة إن قادة هذه المجتمعات لا يرتبطون بفئة أو طبقة أو منظمة معينة لتحقيق الأهداف العليا للأمة ولكن ارتباطهم مباشرة بمجتمع الجماعة الذى يقودونه فالحاكم لمجتمع الجماعة يحكم بالقانون أى العرف الاجتماعى ويمكن إقصاؤه فى حالة خروجه على الناموس القانونى الاجتماعى لمجتمع الجماعة وعدم تحقيق ما يؤتمر بتنفيذه ويخبرنا الأدب السياسى لممارسة السلطة والقوة السياسية فى الأشكال الإفريقية التى تطرقنا لها بأن هناك العديد من القيود على ممارسة السلطة على الحاكم وعلى سلوكه السياسى فى كل من الأنظمة المجزأة أو المركزية.
ـ النوع الأول من القيود: طبيعة الموقع السياسى فى المجتمع التقليدى.
ـ النوع الثانى من القيود: قيود رابطة النسب والقربى حول الحاكم.
فالقائد فى النوع الأول حاكما كان أو ملكا أو رئيس جماعة ينظر إليه كأداة لخدمة المجتمع ولمعاقبة ـ متجاوزى الحدود الاجتماعية والأعراف ومن مهامه حل المنازعات بأشكالها العامة والشخصية والعشائرية وإشاعة الهدوء والطمأنينة وهذه المهام تمارس داخل الإطار المعترف به للعرف إنها المسئولية لقيادة مجتمع الجماعة بناء على توجهات ومتطلبات مؤسسة العرف كقيود تفرض مباشرة على احتمالات سوء استعمال السلطة السياسية.
والنوع الثانى من القيود يأتى من خلال دور وجود ذوى القربى والنسب المحيطين بالحاكم أو رئيس الجماعة لأنه بكل بساطة وصل إلى السلطة نتيجة لاختيارهم له وبالطبيعة يحمل مسئولية نحوهم كمجتمع الجماعة يحتاجون له ويحتاج لهم ومن هنا ومن خلال طبيعة هذه العلاقة العشائرية يتوقع منهم النصائح من خلال رؤيتهم للمجتمع والقانون وغالبا ما يشكل هذا النوع من القيود طبيعة المؤسسة السياسية لقبائل وعشائر سوازى والباجندا فى جنوب القارة.
إن كل فعل سياسى يفترض أن يتعرض لقيود قبل إعلانه من قبل روابط النسب والقربى حيث يمارس الكل مهام سلطة حماية السلامة العامة والرفاهية العامة وتقديم وإسداء النصائح بما هو صحيح وبما هو خطأ وهناك قيد قوى آخر على سوء استعمال السلطة السياسية يأتى من كبار السن فى كل المجتمع وهم بالطبيعة مصدر آخر للشرعية حيث من المفترض أن آراء الكبار والشيوخ وفق طبيعة القانون العرفى ينبغى الالتزام بها نظرا لشمولها على قواعد الحكمة والتجربة إنها مؤسسة الجيرونتوقراطية الإفريقية.
وفكرة المجالس أيضا هى بمثابة مؤسسات سياسية تعمل من خلال كبحها لقوة القادة والملوك والرؤساء فكانت المجالس تعمل على إقامة حق الاعتراض على بعض سلوكيات وأفعال الحاكم وفى بعض المجالس الإفريقية حيث تكون مفتوحة للجميع وبدون استثناء إلا أن موافقتها لا تتم إلا على القرارات والسياسات الأساسية والمهمة فقط ومن خلال هذا القيد للمجالس فى تجربة الحكم والسياسة فى إفريقيا ابتكر العقل الإفريقى من خلال مؤسساته السياسية ما يعرف بالإجماع وفى فترة زمنية مبكرة ليس ذلك فقط ولكن للمجلس إقصاء الحاكم إذا ذهب إلى أبعد ما هو مقرر له من صلاحيات وتعيين بديل عنه، وتجربة عشائر وقبائل الاشانتى تدلنا على أنها قد غيرت ملوكها مرات عديدة وأحلت محلهم أنظمة المجالس لممارسة السلطة والقوة السياسية.
وهناك جسم آخر كمصدر للقيود على سوء إدارة السلطة السياسية، إنها الجمعيات وطبقات الأعمار التى تمارس عملها كمؤسسة لمراقبة سوء استعمال السلطة السياسية بطرق شكلية وغير شكلية، فهى تعمل من أجل تأكيد تحقيق أمانى وطموحات ورغبات العضوية الجماعية لمجتمع الجماعة وكل الشرائح الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فهى أى هذه الجمعيات تتحدث وتتحاور حتى الوصول إلى القرار والموافقة مع المجالس وكبر السن والحكام وآخر نوع لهذه القيود على سوء استعمال القوة السياسية الخوف من فعل وأفعال الشعوذة والسحر بمعنى المقدس، والذى يعنى هنا مدى أهمية الآثار الدينية والروحية وكذلك المعتقدات على قيود ممارسة القوة السياسية، فمعظم المجتمعات الإفريقية فى ثقافتها تأكيد على مدى خوف القادة من جعلهم هدفا للشعوذة والسحر وتأثيراته إذا انحرفوا عن المبادئ العامة والممارسة المستقيمة للقوة السياسية.
وفى كل الظروف فإن النظم السياسية هذه تحتاج دائما إلى أشكال رسمية وغير رسمية كقيود على ممارسة سوء استعمال القوة السياسية وفى الوقت نفسه فإن وجود حاكم أو مجموعة قادة يتمتعون بقوة عالية لقيادة المجتمعات فى إفريقيا من ضرورات فعالية تلك الأشكال والنظم السياسية ثم الدين والفلسفة السياسية.
إن تلازم الدين والسياسة فى أساسه ونشأته ظاهرة إفريقية وهذه الظاهرة مثبتة بأدلة عملية فى معظم تجارب الأشكال السياسية التى مرت بنا وهى ممارسة اعتيادية فى الحياة السياسية الإفريقية، فينظر إلى الحاكم بأنه استمرار لسابقه من القادة وهو ممثل للدين فى تطبيق منظومة العرف والمبادئ الاجتماعية والسياسية، فالحاكم هنا يعمل كحلقة وصل بين العالم الروحى و الدنيوى فى المكان والزمان، وتدعم مؤسسة العرف الحاكم وتحدد أفعاله الدينية السياسية داخل مجتمع الجماعة من خلال مشاركته الأساسية والملزمة فى الاحتفالات والطقوس الدينية والزواج وأعياد الميلاد ومراسم الطلاق ومراسم الدفن ومراسم الولادة، ودوافع هذه المشاركة تأتى من طبيعة الدين كفلسفة حياتية فى إفريقيا.
المجتمعات الإفريقية كانت ولا تزال تؤمن بالقوة الأعلى المسئولة عن خلق الكون وقد اتخذت من الطوطمية طريقا للتعبد إلى هذه القوة الأعلى، ومن أهم مظاهر هذا الإيمان فكرة البركة الدينية والنجاة اللتين ترتبطان بإرادة السماء ولا يجدر ربطهما بأى مخلوق، ولا يتم فى تلك المجتمعات التحصل على البركة إلا من خلال قواعد أخلاقية عرفية صارمة وانضباط ذاتى والعمل والعناية بمصالح الآخرين واحترام الأحياء والأموات، وكانت معظم الأديان الإفريقية تدعم وتعضد رموز السلطة التى تعمل على إبراز قيم ومبادئ مجتمع الجماعة.
فالسياسة والدين كممارسة أحادية كانت منتشرة كظاهرة اجتماعية فى إفريقيا وتمارس كوظيفة سياسية أمام عامة الناس حيث ظهر ما يعرف بـ الديانات الشعبية من خلال طقوس ووظائف “دينوسياسية” والتى تعكس معا موقع الفرد فى الكون ومجتمع الجماعة، ومن مظاهر التزاوج بين الدين والسياسة فى هذه المجتمعات أهمية السحر حيث السحر الجيد والسحر غير الجيد فى علاقته وأثره على مجتمع الجماعة إن السحر الجيد يجعل المطر يسقط للمحاصيل ويصنع وحدة اجتماعية نحو الإنتاج والاكتفاء الذاتى والسحر غير الجيد يؤثر على إنتاج الغذاء ويسبب الآلام والخسائر وكان القادة السياسيون يعملون على بتر كل الأفعال التى تأتى ضد منظومة مجتمع الجماعة من خلال تطويرهم إجراءات وأفعالا دينو ـ سحرية لإبعاد الشرور عن مجتمع الجماعة وبالتالى فإحدى مهام السلطة السياسية إعداد اختصاصيين روحيين لقيادة وممارسة السلطة السياسية من خلال مدارس معدة لهذا الغرض، فالعملية السياسية هنا لها طبيعة روحية وقدسية، وهنا لابد من التذكير بأهمية هذا التداخل بين الدين والسياسة فى مقاومة حركة الاستعمار الثقافى الأوروبى وخروجه من القارة أهمية الجيرونتوقراطية فى الحكم والسياسة فى إفريقيا.
تفترض الثقافة السياسة الإفريقية أن هناك علاقة ارتباطيه بين العمر والحكمة واكتسابها فالعمر يعنى هنا مدى اكتساب الفرد لمقومات الحنكة والحكمة والتعقل والرشاد لقيادة وتوجيه الآخرين، إنها فلسفة حكم كبار السن ففى معظم الأشكال السياسية التى مرت بنا كنا نلمس مدى أهمية الرجوع إلى كبار السن فى أخذ المشورة والنصيحة، وتحديد ما هو خطأ وما هو صحيح لقيادة المجتمعات الإفريقية والمشاركة فى فض النزاعات وصنع السياسات العامة فكان لهم دور مهم فى صنع القرارات السياسية والمصيرية، لقد طورت المجتمعات الإفريقية نفسها باتجاه بناء مجتمعات العائلات من خلال التوسع فى الفلسفة الجماعية وكان هذا طبيعيا فتلك المجتمعات لم تكن سريعة فى تطورها مثل مجتمعات اليوم حيث لم يكن هناك تراكم ثقافى متسارع وبالتالى ظهرت أهمية كبار السن فى أن يتركز التراكم الثقافى والسياسى والمعرفى فى شخصهم لخدمة المجتمع فالجيرونتوقراطية كنظام سياسى وكمصدر للسلطة والقوة السياسية تفترض أن العمر الطويل يعنى التوصل إلى تراكم معرفى والحكمة والحنكة والرشد، وفى ظل تطور الأنماط الاجتماعية الإفريقية فكبار السن هم بمثابة مخازن للمعرفة والثقافة والرشد والترشيد للمجتمع وبالتالى فإن المعرفة السياسية والدينية تتحول إلى قوة مختلفة المظاهر والمعانى لدى كبار السن، وتتم عملية التنشئة السياسية للشباب من خلال غرس التجارب والمفاهيم والأفكار السياسية والاجتماعية وتعلمها من كبار السن، وعندما يتقدمون فى السن بدورهم فيعتبرون من فئة كبار السن الحكماء.
ففى تنزانيا على سبيل المثال وضمن عشائر وقبائل أروشا الكبار والشباب ينقسمون إلى درجتين كل درجة من فئة الشباب أو كبار السن يتم إعطاؤها تعليمات حول كيفية صنع القرار واستعمال الأسلحة وكيفية جمع والاحتفاظ بالطعام، وتهدف هذه التنشئة السياسية إلى اكتساب المهارات والحكمة والمعرفة والتى سوف تؤثر فى حياة الجميع وكل ذلك يتم فى ظل وجود حكيم أكبر سنا من الجميع يصنع القرارات المصيرية لهم وبمشاركتهم.
إن تجربة المؤسسة الديمقراطية الشعبية والعائلية العشائرية فى إفريقيا تعكس دائما هذا النمط من التفكير السياسى ضمن أفراد المؤسسة الاجتماعية، للبحث عن مفاهيم الشرعية والمشروعية وقد اتخذت من قاعدة العمر وسيلة لحمل الأمانة السياسية والبناء المجتمعى معا وخدمت المجتمعات الإفريقية ولمدة زمنية طويلة الخلاصة ولقد أوضح الاستطلاع التحليلى هذا على أن التراث السياسى الإفريقى كان مزرعة حاضنة لأفكار النظرية السياسية وبكل مقوماتها من خلال مدرسة الديمقراطية المباشرة إلا أنها لم تكن مدونة أو مكتوبة، فالواقعية السياسية التاريخية الإفريقية لتجربة الحكم والسياسة أفرزت بناءات عمرانية سياسية وكونت معمارا من المعرفة السياسية وكيفية إدارة شئون السلطة وممارسة القوة وتوزيعها بشكل مساواتى وعادل فقدمت هذه المدرسة نفسها إلى قضايا المعرفة السياسية والحكم الرشيد والتعددية المركزية والتزاوج بين السياسى والمقدس وتوزيع السلطات والقيود السياسية كمرجعية للشرعية وقدمت أيضا أشكالا وأنماطا سياسية كثيرة فكانت المؤسسة الجيرونتوقراطية تعمل جنبا إلى جنب مع المؤسسة الدينوسياسية ومؤسسات المجتمع السياسى للرجال ومؤسسات المجتمع السياسى للنساء مؤسسات من خلالها يجد الأفراد فضاءات الحرية والعدل فى امتلاك مقومات السلطة والثروة والسلاح وذهب الاستطلاع إلى استنتاج المصدر المعرفى الرئيسى لمفاهيم التعددية الجماعية كبذور كانت منتشرة فى التراث والفكر السياسى الإفريقى ومعرفة أصول التعددية المركزية ووسائط انتشار ممارسة القوة السياسية وقدم التحليل السبق الفكرى السياسى الإفريقى لموضوعات المرجعية والمراقبة والقيود وكيفية صنع آليات فصل السلطات ضمن آلية ممارسة السلطة جماعيا واتضح من التحليل الاستطلاعى للمركب المفاهيمى التاريخى لتجربة الحكم والسياسة فى إفريقيا وتحديدا فى تراث الفكر السياسى الإفريقى الخصوصية الثقافية فى تلازم المقدس مع السياسى كمصدر مؤسساتى لبناء علاقات القوة داخل المجتمع إن التنوع فى الأشكال السياسية الإفريقية التراثية يعبر عن غزارة وغنى الحياة السياسية الإفريقية وهذا التنوع ليس له إلا البقاء كما كان فى الماضى ويبقى فى الحاضر والمستقبل.

ليست هناك تعليقات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.